فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما أخبر عن حال المتقدمين، وكان من في زمانه صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يدعون غاية العلم بها والاجتماع عليها، وهي كلها داعية إلى المبادرة إلى إرث هذا الكتاب الخاتم الجامع، وكان بعضهم يتلبس بالتنسك والإعراض عن الدنيا وغير ذلك مما يقتضي أنه على بصيرة من أمره، وإنكار أن يكون عنده نوع شك، قال على وجه يعم غيرهم، مؤكدًا تنبيهًا على ذلك: {وإن الذين} ولما كان المراد الوصول إلى الكتاب من غير منازع، ولم تدع حاجة إلى العلم بالموصل، بني للمفعول قوله: {أورثوا الكتاب} أي الكامل الخاتم، وهم هذه الأمة بما نسخ كتابهم ما تقدمه كان غيرهم كأنه مات، فورثوا كما قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} [فاطر: 32] فكان حالهم في تمكنهم من التصرف في الكتاب بالحفظ والفهم وعدم المنازع في ادعائه حال الوارث والموروث منه فقال: {من بعدهم} أي المتفرقين، وأثبت الجار لعدم استغراق الزمان {لفي شك منه} أي إيراث للكتاب المقتضي للاجتماع لا للتفرق لما فيه من الخير، وذلك لعملهم عمل الشاك فيقولون: إنه سحر وشعر وكهانة، ونحو ذلك، وأن الآتي به غير صادق بعد اطلاعهم على ما اتى به من المعجزات وبعد معرفتهم به، أما العرب ومن ساكنهم من أهل الكتاب فبإعجازه مع ما في أهل الكتاب من البشارة به، وأما غير من ساكنهم فبدعوة كتابهم {مريب} أي موقع في التهمة الموقعة في الحاجة الموقعة في صروف الدهر وهي شدائده وآفاته ونوائبه هذا على أن المراد كتابنا، ويجوز أن يكون الضمير لأهل الكتاب خاصة والكتاب كتابهم، وشكهم فيه عملهم بغير ما دعاهم إليه من اتباع كتابنا باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم.
ولما ثبت بهذا زيغهم عن أوامر الكتاب الآتي من الله، سبب عنه أمره صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس ما ينفعهم عن رسالة ربه الذي أنزل تلك الكتب في آية واحد مفصلة بعشر كلمات في كل كلمة منها حكم برأسه، قالوا: ولا نظير لها إلا آية الكرسي فإنها عشرة أصول كل أصل منها مستقل برأسه فقال مسببًا عن حالهم الاجتهاد في إزالتها والعمل بضدها: {فلذلك} أي لهذا الوحي العلي الرتبة الذي وصينا بمقاصده جميع الرسل أصحاب الشرائع الكبار من أولي العزم وغيرهم، أو لذلك التصرف المباعد للصواب والشك في أمر الكتاب.
ولما كان سياق الدعوة للخلق إلى ما أوحى إليه فأنزل عليه، قدم قوله: {فادع} إلى من أرسلك الله به من الاتفاق على ما أمر به الإله من الاجتماع على الملة الحنيفية.
ولما كان الداعي لغيره لا ينفع دعاءه لذلك الغير ما لم ينفع نفسه، قال: {واستقم} أي اطلب القوم من ربك على مشاق الدعوة ليعينك عليه وأوجده على ما يدعو إليه كتابه مما تدعو إليه ويجب عليه {كما أمرت} ممن لا أمر لغيره في تفاصيل الدعاء من اللين والغلظة والتوسط وغير ذلك من تحديث الناس بما تحتمل عقولهم وتربيتهم على حسب ما ينفعهم.
ولما كان كل ما خالف كتابنا هوى، وكل ما خالف كتابنا فهو على مجرد الهوى، قال: {ولا تتبع} أي تعمدًا {أهواءهم} في شيء ما، فإن الهوى لا يدعو إلى خير، والمقصود من كل أحد أن يفعل ما أمر به لأجل أنه أمر به لا لأجل أنه يهواه.
ولما كانوا قد تفرقوا في الكتاب وشكوا فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، أمره بما يخالف حالهم فقال: {وقل} أي لجميع أهل الفرق، وكل من يمكن له القول فإنك أرسلت إلى جميع الخلق: {آمنت بما} أي بكل شيء.
ولما كان أكمل الناس إيمانًا أكثرهم استحضارًا لأوصاف الكمال من الجلال والجمال، صرف القول إلى الاسم الأعظم إشارة إلى سلوك أعلى المسالك في ذلك فقال: {أنزل الله} أي الذي له العظمة الكاملة {من كتاب} لا أفرق بين شيء من كتبه ولا أحد من رسله، بل كل كتاب ثبت أنه نزل على رسول ثبت رسالته بالمعجزة فأنا به مؤمن وإليه داعٍ كما اقتضاه كمال القوة النظرية، قال أبو علي القالي في ذيل الأمالي: حدثنا أبو بكر- هو ابن الأنباري- حدثنا أبو جعفر محمد بن عثمان حدثنا صحاب بن الحارث أنا بشر بن عمارة عن محمد بن سوقة قال: أتى عليًّا- رضي الله عنه- رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما الإيمان أو كيف الإيمان؟ قال: الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد، والصبر على أربع شعب: على الشوق والشفق والزهادة والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلى عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات، واليقين على أربع شعاب: تبصرة الفطنة وتأويل الحكمة وموعظة العبرة وسنة الأولين، فمن تبصر الفطنة تأول الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف بالعبرة، ومن عرف العبرة عرف السنة، ومن عرف السنة فكأنما كان في الأولين، والعدل على أربع شعب: على غائص الفهم وزهرة الحلم وروضة العلم وشرائع الحكم، فمن فهم جمع العلم، ومن حلم لم يضل في الحكم، ومن علم عرف شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرط أمره، وعاش في الناس.
والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمنين، ومن نهى عن المنكر أرغم آناف الفاسقين، ومن صدق في المواطن فقد قضى الذي عليه، ومن شنيء المنافقين غضب لله وغضب الله له فأزلفه وأعلى مقامه، قال: فقام الرجل فقبل رأسه.
ولما أخبر بالعدل في القوة النظرية، أتبعه ذلك في القوة العملية فقال: {وأمرت} أي ممن له الأمر كله بما أمرني به مما أنزل عليّ {لأعدل} أي لأجل أن أعدل {بينكم} أيها المفرّقون في الأديان من العرب والعجم من الجن والإنس كما دعى إليه كمال القوة العملية، ثم علل ذلك بقوله: {الله} أي الذي له الملك كله {ربنا وربكم} أي موجدنا ومتولي جميع أمورنا، فلهذا أمرنا بالعدل على سبيل العموم لأن الكل عباده.
ولما كان الرب واحدًا، انتج عنه قوله: {لنا أعمالنا} خاصة بنا لا تعدونا إلى غيرنا {ولكم أعمالكم} خاصة بكم لا تعدوكم إلى غيركم، لأنه لا داعي لأن نأخذ عمل بعضنا فنعطيه لغيره، لأن ذلك لا يفعله إلا ذو غرض، وهو سبحانه محيط بصفات الكمال، فهو منزه عن الأغراض، ولما وصل بتمام هذه الجملة في إزالة الريب وإثبات الحق إلى ما هو كالشمس لثبوت الرسالة بالمعجزات وإعجاز هذا الكتاب وتصادقه مع ما عند أهل الكتاب، وبيان هاتين المقدمتين اللتين لا نزاع بين أحد من الخلق فيهما كانت نتيجة ذلك: {لا حجة} أي موجودة بمحاجة أحد منا لصاحبه {بيننا وبينكم} لأن الأمر وصل إلى الانكشاف التام فلا فائدة بعده للمحاجة فما بقي إلا المجادلة بالسيوف، وإدارة كؤوس الحتوف، لأنا نعلم بإعلام الله لنا في كتابه الذي دلنا إعجازه للخلائق على أنه كلامه، فنحن نسمعه لذلك منه أنا على محض الحق وأنكم على محض الباطل، وقد أعذرنا إليكم وأوصلنا ببراهينه إلى المشاهدة فلم يبق إلا السيف عملًا بفضيلة الشجاعة.
ولما كان هذا موضع أن يقال: أفما تخافون الله فيمن تقاتلونه وهو عباده، أجاب بقوله مظهرًا غير مضمر تعظيمًا للأمر: {الله} أي الذي هو أحكم الحاكمين {يجمع بيننا} أي نحن وأنتم على دين واحد أراد فلا يكون قتال، وفي الآخرة على كل حال {فهو يحكم بيننا} {وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون} [الشعراء: 227] فما أقدمنا على القتال إلا عن بصيرة.
ولما كان الجامع بين ناس قد يكون مآلهم إلى غيره، بين أن الأمر فيه على غير ذلك، فقال عاطفًا على ما تقديره: فمنه كان المبدأ: {وإليه} أي لا إلى غيره من حيث هذا الاسم الجامع لجميع الصفات {المصير} حسًا ومعنى لتمام عزته وشمول عظمته وكمال رحمته، وما كان فيما بين المبدأ والمعاد من الأمور التي كانت بحيث يظن أنها خارجة- لتصرف الغير فيها- إنما كانت ابتلاء منه يقيم بها الحجة على العباد على ما يتعارفونه بينهم، وما كان المتصرف فيها غيره فتصرفهم إنما كان أمرًا طارئًا يصحح عليهم الحجة ويلزمهم الحجة.
ولما كان التقدير: فالذين رجعوا إليه طوعًا في هذه الدار بعد هذا البيان والإظهار، وتركوا الجدال حجتهم ثابتة ولهم الرضا والنعيم المقيم، عطف عليه قوله مبتدئًا بالموصول ليصله بما يفهم التجدد والاستمرار: {والذين يحاجّون} أي يوردون تشكيكًا على دينه الحق من الشبه ما يسمونه حججًا، ولعل الإدغام يشير إلى أن أهل هذا الضرب منافقون يلقون شبههم في خفاء فتشربها قلوب أمثالهم فتصير أهوية فيضعف أمرها ويؤيده تقييد الدحوض بما عند الرب {في الله} أي في دين الملك الأعظم ليعيدوا الناس بعدما دخلوا في نور الهدى إلى ظلام الضلال.
ولما كانت إقامة الحجة وإظهار المعجزة أمرًا ملزمًا لجميع من بلغه الاستجابة لوصول الأمر إلى حد من البيان سقط معه الجدال، قال معلمًا إن ما كان في قوة الوجود يصح أن يطلق عليه أنه موجود، ومنبهًا بالجار على ذم هذا الجدال ولو قل زمنه: {من بعدما} ولما كان المقصود مطلق الاستجابة لا من مجيب معين قال: {استجيب له} أي استجاب له الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار الناس كلهم بما يبين لهم مستجيبين بالقوة وإن لم يستجيبوا بالفعل، فإن الأمر قد ظهر غاية الظهور، ولم يبق إلا العناد، فهذه الجملة هي المراد والثمرة من قوله: {لا حجة بيننا وبينكم}.
ولما كان من خالف ظاهره باطنه ضعيف الحجة هلهل النسج، قال معبرًا بمبتدأ ثان مفردًا للحجة إشارة إلى ضعفها: {حجتهم} أي التي زعموها حجة، وأخبر عن هذا المبتدأ الثاني ليكون هو وخبره خبرًا عن الأول فقال: {داحضة} أي زالقة فهي ذاهبة غير ثابتة لأجل أنها في معارضة ما ظهوره كالشمس بل أجلى، والعبارة لفتٌ إلى صفة الإحسان والعندية إشارة إلى شدة ظهور ما في حجتهم من الدحوض لأن {عند} للأمور الظاهرة المألوفة، وصفة التربية للعطف والرفق، والإضافة إلى ضميرهم تقتضي مزيد لطف وعطف، فهو إشارة إلى أنها هباء منثور عند تدقيق النظر ولا سيما إذا كان بصفة عزة وقهر وغضب، فالمعنى أن دحوضها ظاهرًا جدًّا ولو عوملوا بصفة الإحسان ولو خصوا بمزيد عطف وبر، فأين هذا مما لو قيل (لدى عليم قدير) فإنه يفهم أن دحوضها لا يدركه إلا بليغ العلم تام القدرة، وهو مع ذلك غريب فيصير فيه نوع مدح لحجتهم في الجملة: {عند ربهم} أي المحسن إليهم بإفاضة العقل الذي جعلهم به في أحسن تقويم، فمهما جردوه عن الهوى، دلهم على أن جميع ما كانوا فيه باطل، وفيه إشارة إلى أن أدنى ما يعذبهم به قطع إحسانه عنهم، وأنه يظهر بطلان ما سموه حجة لكل عاقل فيورثهم الخزي في الدنيا والعذاب في الأخرى على أن قطع إحسانه هو عند التأمل أعلى العذاب {وعليهم} زيادة على قطع الإحسان {غضب} أي عقوبة تليق بحالهم المذموم ووصفهم المذؤوم ومنه الطرد، فهم مطرودون عن بابه، مبعودون عن جنابه، مهانون بحجابه.
ولما أفهم التعبير بـ: (على) ذمهم باستعلاء النقم عليهم لم يشكل التعبير باللام، بل كان مفهمًا التهكم والملام فقال: {ولهم} أي مع ذلك {عذاب شديد} لا تصلون إلى إدراك حقيقة وصفه، والآية مشيرة إلى الانتصار على أهل الردة وضربهم بكل شدة لسوء منزلتهم عنده كما كشف عنه الحال عند ندب الصديق إليهم بالقتال- رضي الله عنه- وأرضاه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى لما بيّن أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه، كان لقائل أن يقول: فلماذا نجدهم متفرقين؟ فأجاب الله تعالى عنهم بقوله: {وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ} يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية والأنفة الطبعية، على أن ذهب كل طائفة إلى مذهب ودعا الناس إليه وقبح ما سواه طلبًا للذكر والرياسة، فصار ذلك سببًا لوقوع الاختلاف، ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل، إلا أنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب، لأن لكل عذاب عنده أجلًا مسمى، أي وقتًا معلومًا، إما لمحض المشيئة كما هو قولنا، أو لأنه علم أن الصلاح تحقيقه به كما عند المعتزلة، وهو معنى قوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} والأجل المسمى قد يكون في الدنيا وقد يكون في القيامة، واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة من هم؟ فقال الأكثرون هم اليهود والنصارى، والدليل قوله تعالى في آل عمران {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19] وقال في سورة لم يكن {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} [البينة: 4] ولأن قوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} لائق بأهل الكتاب، وقال آخرون: إنهم هم العرب، وهذا باطل للوجوه المذكورة، لأن قوله تعالى بعد هذه الآية: {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} لا يليق بالعرب، لأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم، هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} من كتابهم {مُرِيبٍ} لا يؤمنون به حق الإيمان.
ثم قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فادع واستقم كَمَا أُمِرْتَ} يعني فلأجل ذلك التفرق ولأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين، فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية واستقم عليها وعلى الدعوة إليها، كما أمرك الله، ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة {وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أنزل الله مِن كتاب} أي بأي كتاب صح أن الله أنزله، يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة، لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، ونظيره قوله: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} إلى قوله: {أولئك هُمُ الكافرون} [النساء: 151] ثم قال: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي، قل القفال: معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي وأنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله، أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه، لكني أسوي بينكم وبين نفسي، وكذلك أسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله.
ثم قال: {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإليه المصير} والمعنى أن إله الكل واحد، وكل واحد مخصوص بعمل نفسه، فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه، فإن الله يجمع بين الكل في يوم القيامة ويجازيه على عمله، والمقصود منه المتاركة واشتغال كل أحد بمهم نفسه، فإن قيل كيف يليق بهذه المتاركة ما فعل بهم من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟ قلنا هذه المتاركة كانت مشروطة بشرط أن يقبلوا الدين المتفق على صحته بين كل الأنبياء، ودخل فيه التوحيد، وترك عبادة الأصنام، والإقرار بنبوة الأنبياء، وبصحة البعث والقيامة، فلما لم يقبلوا هذا الدين، فحينئذٍ فات الشرط، فلا جرم فات المشروط.
واعلم أنه ليس المراد من قوله: {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} تحريم ما يجري مجرى محاجتهم، ويدل عليه وجوه الأول: أن هذا الكلام مذكور في معرض المحاجة، فلو كان المقصود من هذه الآية تحريم المحاجة، لزم كونها محرمة لنفسها وهو متناقض والثاني: أنه لولا الأدلة لما توجه التكليف الثالث: أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه، بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما تركوا تصديقه بغيًا وعنادًا، فبيّن تعالى أنه قد حصل الاستغناء عن محاجتهم لأنهم عرفوا بالحجة صدقه فلا حاجة معهم إلى المحاجة ألبتة، ومما يقوي قولنا: أنه لا يجوز تحريم المحاجة، قوله: {وجادلهم بالتي هي أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ} [النحل: 125] وقوله: {ولا تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] وقوله: {يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] وقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ} [الأنعام: 83].